دلالات وأبعاد حملة “لا تتزوج موظفة”

دلالات وأبعاد حملة “لا تتزوج موظفة”

سمعنا في الأونة الأخيرة حملة عجيبة في طرحها، غريبة في دعوتها. إتخذت شكل تأسيس مجموعة فيسبوكية، تدعو لعدم الزواج من موظفة، تحت عدة مسميات وعوامل، تتجاهل أو تجهل الواقع اليومي للمجتمع المغربي والعربي. ولا تلقي بالاً للواقع الصعب الذي أصبح يعيشه السواد الأعظم من الناس، نتيجة لارتفاع الأسعار. وقلة فرص الشغل، واضطرار المرأة إلى العمل خارج البيت وداخله. وهي حملة – من وجهة نظري المتواضعة – تافهة، وتركز على التافه. كما أنها إفراز لواقع التسطيح الممارس، والذي يختلط فيه التفسير الديني المطروح في الساحة، والثقافي وغيرهما. وسأحاول طرح أسباب تلك الدعوات، والخلفيات المعلنة والمضمرة المساهمة في ظهروها، واستجابة كثيرين لها:

العامل الديني المقدم

الدين دون شك دعوة ربانية إلى تحقيق سعادة الإنسان في الدارين، لمن استجاب لتلك الدعوة السوية المغلبة لمصلحة الإنسان. والدين الإسلامي كخطاب مقدس يضع الحلال أساساً والحرام استثناءً. وهو ما نزل فيه نص أو دليل بالتحريم. وفي ذلك يقول الفقهاء “الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص بتحريم”. وعمل المرأة خارج البيت في عمومه حلال، إذا كان وفق قواعد تضمن للمرأة كرامتها، وعدم تعرضها لأي أذى، أو نظرة تقصد استغلالها. وكثيرة مجالات عمل المرأة التي تتحقق فيها هذه الأمور، (كالتربية والتعليم مثلاً).

لكن دعاة هذه الدعوة تأثروا – بوعي أو بدونه- بخطابات دينية تقدم عمل المرأة خارج البيت كشيء لا يصح. وأن عملها هو بيتها دون سواه. وكل خروج من البيت، وعملها خارجه يجعلها سلعة. وتكثر حولها الذئاب البشرية، وتعرض نفسها إلى مخالفة الضوابط الشرعية من (اختلاط/غواية الرجل…). لذلك أصبح عمل المرأة مذموماً في خطابهم انطلاقاً من عموميته.

العامل الثقافي المعلن والمضمر

المرأة وعاء جنسي، لا تصلح للعمل خارج البيت. وأي خروج يجعلها محط استغلال. والحل لذلك، أن تجلس في البيت ولا تعمل. ويكون عملها في منزلها فقط. لذلك فهذا التوجه ينظر للمرأة كأداة تابعة للرجل، ليس من حقها فرض وجودها في المجتمع. ولا ينظر إليها سوى كسلعة يخشى عليها من ذئاب المجتمع.

صحيح أن الأمر موجود. لكن ليس بالصورة التي يسوقونها. فالمرأة في نظرهم معرضة للاستغلال، والطمع من الرجل في جميع الوظائف، والمهن والوضعيات. وذلك أمر لا يصح. لأنه يعبر عن مرض في الدماغ. وخلل ثقافي فرضه خطاب لا يوازن ولا ينصف المرأة كفرد فاعل في المجتمع. لا يحصر دورها في البيت. ولا ينظرون إلى ضرورة تربية المجتمع على احترامها. وتوفير شروط عمل مناسبة لها تمنحها كرامة، وتعلي من شأنها. وتعطيها لمسة في صنع تقدم المجتمع وازدهاره.

والخطير في تلك الحملة أنها تنظر للمرأة العاملة بأنها لا تصلح للزواج، كونها ملكاً مشاعاً بين الرجال في عملها. وتضع تلك النظرة جميع العاملات في سلة الانحراف، متناسين أن كثيراًِ من الأسر تعيلهن نساء عفيفات مكافحات. ولولا كفاحهن لمات أولادهن جوعاً، لتناسي المجتمع لهم، في ظل تراجع قيم التماسك والتعاون التي كانت سائدة منذ سنوات.

في حين ينظر للمرأة التي لا تعمل كمثال نموذجي صالح للزواج. وهذا التفييء نابع من جهل، وتحكم منظومة تقاليد جاهلية لا تمت للدين الصحيح بصلة. ولنا في رسول الله عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة، في المرأة التي تصلح للزواج، وهي الصالحة لا غير العاملة، في زمن كانت الحياة أيسر، حينما قال: “تنكح المرأة لأربع: لمالها ولنسبها ولجمالها ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك”.

عامل اقتصادي ومرتبط برد الفعل

تغير حال المجتمعات العربية وتركيبتها جعل المرأة تخرج لسوق العمل؛ وتتولى الوظائف أكثر من أي وقت مضى. لذلك أصبحت النساء مسيطرات على سوق الشغل. وتفوقن على الرجل في عدة وظائف، خصوصاً على المستوى العددي. وأمام التدهور الاقتصادي، أصبح الكثير من الشباب عرضة للبطالة. وتعاملت المرأة مع الزواج بعد إعالتها لنفسها مادياً (نسبة منهن) بمنطق التعالي، ليس كما كان الأمر سابقاً. وأصبحن لا تقبلن بأي رجل إلا إذا توفرت فيه شروط عدة، خصوصاً في الجانب المادي.

وأمام هذا الوضع جاء رد فعل كثيرين يصادم ذلك التعالي بتعالي مضاد في الزواج بالبنت غير الموظفة، وترك الموظفة للعنوسة، وهذه الأمور ملموسة ومشاهدة عند كثيرات، ولا نقصد الجميع. وتعامل المرأة والرجل مع الموضوع يبطن في طياته تصورات حالمة، طوباوية، بعيدة عن الواقع الذي فرض نفسه، من قلة الزواج نتيجة لتدهور الواقع الاقتصادي، وتبدل بعض القيم المجتمعية. وأصبح تلك الدعوات (من الجانبين) صدامية حالمة، وضحاياها مستقبل المجتمع وتحطم قدسية الزواج، ومعايير الاختيار السليمة فيه. مع ما كان سابقاً، على الأقل في ظل الهيمنة التي كانت تركز على القيم أولاً وأخيراً.

وهذا الوضع هو إفراز جديد للعولمة والإعلام الذي ضلل العقول الفاقدة للمناعة، إلى أن وصل حالنا إلى ما نحن عليه. والعوامل التي أشرنا إليها سالفاً، وغيرها من العوامل يضيق المقام لحصرها جميعها.

Comments are closed.