حكاية دار المعكّرة

حكاية دار المعكّرة

حاجيتكم وما جيتكم وبالخير مسيتكم، بسم الله بديت وعلى النبي صليت، وبحكاية من حكايات زمان جيت. بمثل هذه العبارات المشوقة والجميلة، كانت تفتتح جداتنا عادة جلسات سحرت المستمعين، جلسات طغى عليها التشويق والمتعة والتعلم، إمتزج فيها الواقع بالخيال، وإختصرت أحداثها حكم ونصائح وعبر، حكايات يجزم رواتها أنها حقيقية، وكيف لحكايات بمثل هذا الجمال ألا تكون كذلك؟.

فالحكاية الشعبية، وبما تتضمنه من قيم أخلاقية وتعليمية، وأحداث تشويقية حماسية، كانت وسيلة توعية وتعليم، وترفيه جد مهمة، ساهمت في تنشأة أجيال، أهم ميزاتها الإيمان بالقيم والتمسك بالعادات، وتبني الإنسانية كمبدأ في الحياة، ببساطة نقول أجيال سويّة، حلمت وتخيّلت وتعاطفت، فرحت وبكت، عاشت الحكاية بكل تفاصيلها، ففهمت معناها وإستوعبتها، وإستخلصت أجمل القيم منها.

دار المعكرة

بسكون الميم وفتح العين وسكون الكاف، هي حكاية من بين مئات الحكايات التي يزخر بها التراث الجزائري، والتي تتردد في دويرات القصبة العتيقة، أي بيوتها، حيث جرت وقائعها، حكاية جميلة، جمال العبر والدروس التي تحملها.

بسم الله بديت وعلى النبي صليت، وبحكاية من حكايات زمان جيت، كان لابد لنا من هذه المقدمة، حتى نستحضر سحر جلسات الماضي، وتكون لحكايتنا نكهة خاصة.

هي حكاية فتاتين يتيمتين توفي والدهما، و ترك لهما بيتاً في القصبة العتيقة مناصفة

كانت الكبرى وإسمها مريم بسيطة الجمال، لكنها كانت ملتزمة بالقوانين العامة للمجتمع، ومحافظة، أي كانت فتاة جادة تعمل على النسيج، وتجيد الطبخ. أما الأخت الصغرى فاطمة، وعلى عكس أختها مريم، كانت فائقة الجمال، وشديدة الإهتمام بنفسها أيضاً، فلم تكن تترك مناسبة إلا وتخضب شعرها، وقدميها ويديها بالحناء، حتى سميت بالمعكرة، نسبة للون الحناء الأحمر. كما أنّها كانت فتاة مستهترة، مستخفة بقيود المجتمع، مما جعلها منبوذة سيئة السمعة، ومما زاد الطين بلّة أنها إختارت الغناء في الأفراح، كعمل لكسب لقمة عيشها، كونها كانت تملك صوتاً جميلاً جداً. وكان هذا الأمر سبب الخلاف بينها وبين أختها مريم، التي كانت ترى أن فاطمة جلبت العار لعائلتها، بإحترافها الغناء في الأفراح.

ذات يــوم…

وبينما كانت مريم تطهو طبق المثومّ العاصمي، وصلت رائحته الشهية لجارتهم الحامل، التي لم تستطع مقاومتها، لكن كبرياءها منعها من أن تطلب بعضاً منه من جارتها، فلم تجد من وسيلة سوى أن تذهب وتطلب منها بعض النار، فعلاً قصدت الجارة الحامل مريم قائلة جارتي العزيزة، هل لي بشعلة نار فقد إنطفأت نار موقدي؟ لم تتردد مريم في منح جارتها شعلة نار فإنصرفت الجارة، لكنها عادت بعد مدة قصيرة، بنفس الطلب فأعطتها شعلة من نار مجدداً، لتعيد الجارة الكرة مرة ثالثة ورابعة… وسابعة.

إنتبهت فاطمة التي كانت جالسة في ساحة البيت للأمر، وقالت لأختها ألم تلاحظي أن جارتنا حامل، وأنها إنما كانت تريد بعضاً مما تطبخين؟ حضري لها طبقاً وسأقوم بأخذه لها يا أختي. رفضت مريم طلب أختها بشدة، متعللة بأنها لم تطبخ كفاية من الطعام حتى تتقاسمه مع الغير، فأخذت فاطمة تترجاها وتتوسلها، لكن مريم بقيت مصرّة على موقفها. فكّرت فاطمة التي أشفقت على حال الحامل المسكينة ملياً، ثم قالت لأختها سوف أعرض عليك أمراً، أرجو أن توافقي عليه، بدا الإنزعاج على فاطمة، لكنها قالت لأختها بفضول، وما هو هذا الأمر؟ فقالت فاطمة سوف أعطيك النصف الذي أملكه من الدار، وتعطيني بالمقابل قدر المثوّم.

الدار مقابل قدر المثوّم

لم تصدق مريم ما سمعته، فلطالما حلمت بإمتلاك كل الدار، وطرد أختها التي جلبت العار للعائلة منه، وها هي ذي فرصة لا تعوض تأتيها على طبق من ذهب، أو فلنقل طبق المثوّم، فلم تتردد دقيقة واحدة لقبول العرض.

وفعلاً أخذت فاطمة قدر المثوّم للجارة الحامل، التي من شدة فرحتها أخذت تقبّلها وتعانقها، وتدعو الله بأن يجعلها من المؤمنات الصالحات، إنصرفت فاطمة عائدة إلى دارها فرحة، كونها إستطاعت أن تساعد جارتها، وتجبر بخاطرها.

في الصباح الباكر إستيقظت مريم سعيدة كونها ستمتلك البيت أخيراً، ذهبت إلى غرفة فاطمة كي توقظها حتى تذهبا لتوثيق البيت بإسمها.

طرقت الباب لكن فاطمة لم تفتح، أعادت الطرق بقوة لكن لا حياة. وفجأة شعرت بحركة غريبة داخل الغرفة المقفلة، فأسرعت إلى الجيران تطلب عونهم، وفعلاً تم كسر باب الغرفة ليجدوا منظراً لا يصدق.

لقد توفيت فاطمة الشهيرة بالمعكرة، وكانت جثتها مغسلة، وإبتسامة تعلو ثغرها، و وجهها الوردي يشع نوراً، وأجمل وأزكى الروائح تفوح من جسدها، ويقال أنهم عجزوا عن إخراج النعش من الغرفة، فقد حاولوا ولوج الباب بوضعيات مختلفة لكن النعش كان يزداد طولاً أو عرضاً، ليقرروا في النهاية دفنها في البيت الذي بادلت نصفه بقدر من المثوّم.

وهكذا سميت الدار بدار المعكّرة، نسبة لها ولا يزال ضريحها موجود في حي القصبة العتيق

قد تكون هذه الحكاية من نسج خيال أسلافنا، لكن جمالها الروحي، وأثرها المعنوي على نفس المستمع الذي تفاجئه النهاية، ليكتشف عظم أجر العمل الصالح عند الله، بغض النظر عن فاعله، يجعله يراجع أحكامه المسبقة إتجاه الناس، وسوء الظن بهم والحكم عليهم، تماماً كما يجعله يعرف قيمة الرحمة وعظمها عند الله، تلك البذرة التي لا تستقر إلا في القلوب النقية، فيدرك أن الرحمة في الله حياة.

Comments are closed.